خطبة الجمعة للشيخ الخطيب في مقر المجلس
ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى جميع الانبياء والمرسلين والشهداء والصالحين هؤلاء الذين يمثّلون القدوة الصالحة ورسموا للبشرية نهج الاستقامة وأعطوا من فكرهم وجهدهم وقاسوا أشدّ المعاناة وضحّوا بأنفسهم من أجل خير الانسان واستقراره وسعادته دون أن يكون ذلك لمصلحة خاصة او لمآرب ذاتية من الحصول على مال أو زعامة وما شاكل ذلك من الامور الدنيوية التي تشكّل همّاً يسعى الناس للوصول اليها عادة، ولذلك لم يدعوا الى خُلُق لم يلتزموا به.
بل ، استنكر القرآن الكريم وهو يحكي خلق ورسالة الانبياء جميعاً استنكر على المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون فقال في توجيهه لهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ )، وهي قاعدة اساسية في ان الايمان ليس حالة نظرية محضة أو مجرد علاقة منحصرة بين العبد وربه، وان محله اماكن العبادة الخاصة كما يريد تفسيره وتحويره من يحاول اخراج الدين من الحياة وهو يرتكب بذلك خطيئتين، الاولى انه حصرٌ للعلاقة مع الله تعالى في هذه الزاوية الضيقة وبذلك فقد ضيّق على الله سلطانه ، والثانية حصرٌ للعبادة بالعبادات المخصوصة كالصلاة والصيام وكلاهما فهم خاطيء، وهو أشبه شيء بالقول بالتفويض ، قُصد منه التلاعب بالمفاهيم الاسلامية للتمكن من اختراق العالم الاسلامي واستتباعه عن طريق ايهامه بأن الاسلام لا يصلح كمنهج لقيادة الحياة والمجتمع وتقديم التشريع والتنظيم اللازمين لما فيه مصلحة الافراد والمجتمعات وتقدمهما في مجالات الحياة كافة، وان البديل هو ما يقدّمه الغرب من نماذج تعتمد فصل الدين عن الدولة، ولئن استطاع الغرب ولعوامل عديدة أن يبسط سيطرته على مجمل العالم الاسلامي وأن يستلحقه سياسياً ليس بسبب الدين والعقيدة وانما للظروف والعوامل التي حكمت العالم الاسلامي التي يتحمل مسؤوليتها المسلمون أنفسهم، ولكنّه مع ذلك لم يستطع أن يحقق ما أراده من إخراج الدين ومفاهيمه من عقول ونفوس غالبية المسلمين بفضل عمق وقوة هذا الارتباط بهما، وثانياً لوجود المراكز العلمية التي تُعنى بالدراسات الدينية التي بدت متنبهة لخطورة المحاولات الاستعمارية التي تحاول تضليل المسلمين بالتلاعب بالمفاهيم الدينية الاسلامية وتفسيرها بنحو مغلوط وتصديها لهذه المحاولات وافشالها عبر مواجهات فكرية وعلمية عميقة وشاملة.
أيها الاخوة والاخوات، كان القرن الماضي مسرحاً لهذه المحاولات ، ولقد استطاع العالم الاسلامي أن يحقق انتصاراً ساحقاً في هذا الميدان، ولكنه فشل في تحقيق نصر مماثل في الميدان العسكري على الغرب الذي وإن بدا انه اعطى البلاد العربية والاسلامية استقلالها ظاهرياً الا انه ابقى لنفسه السيطرة في الواقع عبر فئات ارتبطت مصالحها في الحكم والسلطة والامتيازات به في ظل وجود توازنات القوى الدولية والنظام الدولي الذي تتحكم به الدول الكبرى، كما ان احكام السيطرة على المنطقة العربية والاسلامية لم يقتصر بالاعتماد على العوامل الداخلية وتناقضات المصالح فيها، بل تعداها الى ايجاد الكيان الصهيوني واعتماده كقاعدة عسكرية لمنع حصول اية تغيرات تدفع باتجاه التحرّر من سيطرته بالاعتماد على مقوماتها الذاتية التي سبق واختبرها الغرب وعرِفَ مقدار خطورتها، الا ان الانتصار الذي حققه العالم الاسلامي على الغرب في إفشال فرض ثقافته على الشعوب العربية الاسلامية مهّد لواقع جديد وهو الاعتماد بدلاً عن الانظمة التي ظنّ لفترة زمنية انها قادرة على استكمال انتصاره الفكري والثقافي في الميدان العسكري وأُحبط واستُبدِلَ بالاعتماد على المقاومة الشعبية التي تنتمي اليه فكراً وعقيدةً وثقافةً، وبهذا بدأ مرحلة جديدة من النضال والمقاومة استطاع معها من الانتقال بسرعة قياسية الى واقع جديد.
فقد حققت الحركة الشعبية المقاوِمَة اولى انتصاراتها أولاً تحت العنوان الاسلامي وأظهرت حركتها تحت هذا العنوان بشكل بارز وجلي بقيادة الامام السيد موسى الصدر في لبنان تبعها ثورة الشعب الايراني بقيادة الامام روح الله الخميني التي جعلت في رأس اهدافها تحرير القدس، وكانت اولى خطواتها طرد سفير الكيان الاسرائيلي من طهران واستبداله بسفير فلسطين وجعل سفارة كيان العدو مقراً له يرفرف عليها علم فلسطين رغم مخاطر هذه الخطوة التي كانت تدركها القيادة الاسلامية للثورة الايرانية جيداً. ودفعت ثمنها بشن الحروب عليها ومحاصرتها اقتصادياً وعسكرياً وما زالت تخضع حتى الان للعقوبات ويعمل على اثارة الشغب في الداخل.
أيها الاخوة والاخوات، لقد شكّل سقوط النظام الشاهنشاهي ضربة قوية لأهم قواعد السيطرة الغربية على المنطقة الذي شكّل الى جانب النظام العلماني التركي والكيان الاسرائيلي احدى أهم أضلاع المثلث الذي ترتكز عليه السياسة الغربية في إحكام سيطرتها على المنطقة، وقد تجلّت أهمية هذا الانتصار في تأجيج روح المقاومة في المنطقة والذي سرعان ما تمظهر في لبنان بانتصارات متسارعة لحركة المقاومة أدّت بالنتيجة الى تحقيق أولى انتصاراتها غير المسبوقة بتحرير جنوب لبنان والبقاع الغربي وانتصار المقاومة في غزة في فلسطين ثم بانتصار المقاومة على العدوان الاسرائيلي في الحرب التي شنها العدو في حربه الانتقامية عام ٢٠٠٦ في محاولة لإعادة الاعتبار منعاً لتداعيات هذا الانتصار وتأثيراته الاستراتيجية التي تعني نهاية اسطورة التفوق الاسرائيلي وانهيار الجدار النفسي الذي بنى عليه تفوقه العسكري وهزيمة العالم العربي الدائمة .
إنّ سقوط هذا العامل النفسي شكّل مرحلة استراتيجية تالية لا تقلّ أهمية عن المرحلة الاولى من عملية التحرير ووضع الكيان الاسرائيلي في مرحلة الخطر الوجودي وهو ما عبّر عنه قادة الاحتلال (عسكريين وسياسيين) أن هذه الحرب هي آخر الحروب التي يقوم بها الكيان اعترافاً بقدرة المقاومة الاسلامية على تحقيق الانتصار النهائي وتحرير القدس وفلسطين.
ولقد كانت سوريا في كل هذه المراحل قطب الرحى وعقدة الوصل التي لولا دعم قيادتها لهذا المشروع وشجاعتها في الدخول فيه لم يستطع ربما أن يرى النور.
لقد كانت نقطة الضعف الاساسية للعالم العربي والاسلامي التي طالما استغلها العدو هي مسألة تقديم المشاريع الوطنية ومصالح الانظمة على المصالح الاستراتيجية والتي استفاد منها المخططون الاستراتيجيون الغربيون وادخلوا العالم العربي والاسلامي في صراعات دامية استخدمت فيها كل انواع الاسلحة ومنها الاكثر فتكاً الحرب المذهبية والايديولوجية التكفيرية، كان الهدف منها إنهاء المقاومة وخصوصاً في فلسطين ولبنان وضرب القوى التي تدعمها وعلى رأسها الجمهورية الاسلامية الايرانية والعراق وسوريا، ولكن كل هذه المحاولات فشلت بفعل فتوى المرجعية الدينية الرشيدة في النجف الاشرف والقادة الذين قدّموا التضحيات الكبيرة التي قادت المواجهة وأفشلت هذا المخطط التي تستحق تحية الاكبار ودفع بعضهم حياته انتقاماً لإفشالهم مخطط العدو كالشهيدين اللواء قاسم سليماني وابو مهدي المهندس حيث تصادف هذه الايام ذكرى استشهادهم.
اننا نرى اليوم فشل المؤامرة وعودة دول الاقليم الى الانفتاح ونأمل اخذ العبرة مما جرى واعادة نظر دول الاقليم المؤثرة الى حل يقوم على رسم استراتيجية عربية اسلامية عامة والخروج من الافق الضيق الذي ضيّع المصالح الاستراتيجية لها ولم يحقق المصالح الوطنية ولا مصالح الانظمة.
إنّ مسؤولية هذه الدول التاريخية تستدعي التعجيل بوضع هذه الاستراتيجية خصوصاً انكم ترون التهديد الذي يتعرض له المسجد الاقصى من قبل حكومة العدو لا اقول المتطرفة فكلهم متطرفون ولهم هدف واحد وهو وضع اليد على كل ما تستطيع ايديهم أن تصل اليه وكلّهم ارتكب الجرائم والمجازر ومارس الارهاب بحق الفلسطينيين والعرب ، فيما لم يترك الاستيطان قطعة من فلسطين ولا من الجولان، كما ادعو العرب الى تدارك الوضع الاردني وتقديم المساعدة له لاننا نخاف ان يكون ما يحصل فيه مقدمة لتحقيق مشروع الوطن البديل.
ونحن اذ نهنئ الشعب الفلسطيني وذوي الأسير المحرر كريم يونس بعد أربعين سنة من الصبر والتضحية والصمود كما كل الاسرى الذين نوجه اليهم تحية الاكبار والتقدير سائلين المولى ان يمّن عليهم بالحرية وكل فلسطين بالتحرر من رجس الاحتلال.
ايها الاخوة، اذا كان العدو لم ييأس بعد كل ما جرى فلجأ الى الحصار والتجويع فإن شعبنا ليس أقلّ صبراً من الشعب الايراني وغيره من الشعوب التي قاومت مثل هذه الحروب القذرة وانتصرت في نهاية المطاف، إلا ان ما يؤلمنا ان البعض في الداخل ممن يعينون العدو على وطنهم ويعملون على تحقيق اهدافه عن دراية او جهل ومنهم من اوصل البلد الى حالة الانهيار واشاعة الفساد الاخلاقي وتسخير بعض قنوات التلفزة لانتاج برامج لتفكيك المجتمع وتمييع الجيل الشاب واخراجه من حالة التأثير وتعطيل مساعي الحل، ان على هؤلاء الاتعاظ مما جرى على اشباههم في افغانستان والعودة الى ضمائرهم والمسارعة الى القيام بما فيه مصلحة البلد والاتفاق على الخروج بتسويات وطنية وعدم المراهنة على الخارج .
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)