خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله
ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما ورد عن رسول الله(ص)، حين قال: “إذا كان يوم القيامة أنبت الله لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان، فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم الحساب؟ فيقولون: ما رأينا حساباً فيقولون: هل جزتم على الصراط؟ فيقولون: ما رأينا الصراط، فيقال لهم: هل رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً، فتقول الملائكة؟ حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا فيقولون: خصلتان كانتا فينا فبلغنا الله هذه المنزلة بفضل رحمته فيقولون: وما هما؟ فيقولون : كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم الله لنا، فتقول الملائكة: يحقّ لكم هذا”.
أيُّها الأحبة: إننا أحوج ما نكون إلى أن نستهدي هذين السلوكين، أن نستحي من الله عز وجل أن نكون في معصية وهو يرانا، وهو من نعيش في نعيمه وعطاياه وفضله ومن يريد بنا خيرا، وأن نرضى بما قسم لنا لأن كل ما عنده خير، فلا أحد أحرص علينا منه حتى لو ابتلانا، فهما صمام أمان من معصية الله ومبعث اطمئنان لنا، فنكون بذلك أكثر وعياً واطمئناناً وقدرة على مواجهة التحديات…
والبداية من الاستحقاق الرئاسي الذي توقف السجال حوله في هذه المرحلة في انتظار الحوار الذي وعد به اللبنانيون أن يحصل تحت رعاية فرنسية، والذي نأمل أن يتم التجاوب معه لإخراج البلد من حالة المراوحة التي باتت تداعياتها لا تقف عند حدود معاناة الناس، بل باتت تهدد أركان البلد واستقراره، ونخشى أن تكون هذه المرحلة هي مرحلة الضغوط على اللبنانيين لدفعهم إلى الخيار الذي يريده الخارج والذي بدأت ملامحه في ما صدر من تهديد بالعقوبات سواء من اللجنة الخماسية أو اللجنة الخارجية في الكونغرس الأميركي.
في هذا الوقت دخل البلد في مرحلة جديدة على الصعيد المالي والنقدي بعد تولي النائب الأول لحاكم المصرف المركزي سدة الحاكمية، وهي مرحلة عاصفة بالتحديات، بعدما شارف مخزون العملات الصعبة على النفاد وما بقي هو من الاحتياط الإلزامي الذي لا ينبغي المس به.
ونحن على هذا الصعيد ننوه بما صدر عن نائب الحاكم المصرف المركزي بأنه لن يتابع السير بالسياسات التي اعتمدها حاكم المصرف المركزي في السابق والتي أوصلت البلد إلى ما وصل إليه وعلى أساس التزام الحكومة بشروط محددة إن أرادت الاقتراض من المصرف المركزي لتغطية مصاريفها والتي يهدف من خلالها حفظ ما بقي من أموال المودعين في المصرف المركزي، لكن ذلك لن يحصل إن لم يتم التعاون بين حكومة تصريف الأعمال والمجلس النيابي، فيما قد يؤدي التجاذب الذي بتنا نشهده ورمي كل منهما الكرة على الآخر إلى وصول البلد إلى المأزق وعدم قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها لا سيما لجهة صرف الرواتب وتأمين احتياجات الحكومة.
أما على صعيد الموازنة المطروحة على مجلس الوزراء، فإن ما نشهده من قرارات تشير إلى أنها تختلف عن سابقاتها وستعمد لسد العجز الحاصل فيها من جيوب اللبنانيين بتحميلهم أعباء إضافية، وهم لا يزالون ينؤون تحت الأعباء الماضية، وهذا ما نشهده في إقرار رفع تسعيرة اشتراك الكهرباء عشرة أضعاف رغم أن ساعات التغذية لا تتجاوز أربع ساعات وتعرفة أجيرو والإنترنت سبعة أضعاف، في وقت لا تزال رواتب الموظفين والعاملين على حالها.
ونحن هنا نكرر ما قلناه سابقاً، بأن من حق الدولة أن تفرض الضرائب لتؤمن موارد لها وخصوصاً في ظل العجز الحاصل، لكن بشرط أن تقوم بمسؤولياتها في التخفيف عن الناس في مجالات الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، وأن تأخذ في الاعتبار مدى قدرتهم على تحمل هذه الأعباء، وأن تلحظ في هذه الموازنة خطة لإنعاش الوضع الاقتصادي وتسريع عجلته، وخصوصاً في كيفية إعادة أموال المودعين الذين من واجب الدولة أن ترصد حقهم في أية موازنة.
في هذا الوقت، يعود إلى الواجهة الوضع الأمني المتفلت الذي يحصل في مخيم عين الحلوة، والذي يخشى من أهدافه ومن تداعياته على الساحة اللبنانية، ويزيد من يأس الشعب الفلسطيني وإحباطه ومن معاناته، ونحن في ذلك نضم صوتنا إلى كل الأصوات التي تناشد الأفرقاء المتصارعين لتثبيت ما تم التوافق عليه من وقف إطلاق النار والعمل الجاد لمعالجة الأسباب التي أدت إلى الاقتتال ومحاسبة المسؤولين عنه منعاً لتكراره.
أما على صعيد ذكرى انفجار المرفأ الدامي الذي أحدث دماراً هائلاً وكاد أن يهدد العاصمة بأكملها، وأدى إلى سقوط مئات الضحايا والجرحى، فإننا ونحن نستعيد الذكرى الثالثة لحصول هذه المجزرة وفيما لا يزال الغموض يلفها ولم تعرف بعد حقيقة ما جرى، والجراح التي نتجت عنه لم يتم لأمها، ولا التعويض عمن أصابتهم الكارثة، فإننا في الوقت الذي نتوجه فيه بالتعازي لأهالي الضحايا والشفاء للجرحى والرحمة للشهداء، نجدد دعوتنا إزالة العراقيل التي تمنع القضاء للقيام بدوره بكشف غموض هذه القضية والمتسبب بها وأن يملك الحرية الكاملة بعيداً عن التسييس والاعتبارات الطائفية والمذهبية، فمن حق اللبنانيين وأهالي الضحايا أن يعرفوا الحقيقة وتتم محاكمة المرتكبين، حتى لا تتكرر هذه الكارثة لتي أصابت الوطن في الصميم.
ونتوقف عند الاقتحامات المتكررة التي تستهدف المسجد الأقصى، والتي يقوم بها المستوطنون في شكل شبه يومي، وبتغطية مباشرة من قوات الاحتلال، لندعو العالم الإسلامي إلى تحمل مسؤوليته تجاه مسجد هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وعدم تركه رهينة ما يخطط له هذا العدو من تقسيم زماني ومكاني لهذا المسجد، تمهيداً لإزالته، في الوقت الذي ننوه بالعمليات البطولية التي جرت في الضفة الغربية والأغوار والتي تشير إلى حيوية هذا الشعب ومدى تمسكه بأرضه والاستعداد لبذل التضحيات لاستعادة حقوقه المشروعة.
وأخيراً نهنئ الطلاب الفائزين في امتحانات الشهادة الثانوية بكل فروعها وأهاليهم على هذا النجاح، آملين لهم المزيد من النجاحات ليكونوا دعامة هذا الوطن وقوة له.
وفي الوقت نفسه ندعو بكل جدية لإيقاف عادة إطلاق النار التي تتسبب بسقوط الضحايا وآخرها الطفلة التي أصيبت في الحدث، وهي الآن بين الحياة والموت، والتي باتت تتحول معها مناسبات الفرح والاعتزاز إلى مناسبات يخشى منها ومن تداعياتها.