تحالف متحدون: الدفاع المشروع كاستثناء على مبدأ عدم استيفاء الحق بالذات
منذ تفاقم الأزمة المالية وانعكاسها السلبي على الوضع المعيشي اللبناني وما رافقها من احتجاز المصارف تعسّفاَ لأموال المودعين الذين دفعوا وما يزالون أثمانهاً فقراً وإذلالاً وصفوف انتظار وحرمان من أبسط الحقوق الحياتية اليومية، إضافة إلى لعب المصارف وأصحابها لدورالضحية وتصوير كل مودع يطالب باستيفاء وديعته بنفسه، بعدما أثبت القضاء فشله باستعادتها، بصورة المجرم الخارج عن العدالة، مما استوجب تسديد ضربة قاضية للمصارف تنصف المودعين وتتيح لهم استيفاء حقوقهم بأنفسهم دون تجريم أفعالهم وإنزال العقوبات بهم، فكيف إذاً يمكن للمودع أن يتوجه إلى المصرف ويسترد وديعته بالقوة دون التعرض للملاحقة بجرم استيفاء الحق بالذات وغيرها من الجرائم؟
يتبيّن من خلال المواد ٤٢٩ و٤٣٠ و٤٣١ من قانون العقوبات اللبناني أن جريمة استيفاء الحق بالذات تستوجب توافر العناصر التالية:
١. أن يكون ‘المجرم’ صاحب الحق الذي يستوفيه.
٢. أن يستوفي هذا الحق بالذات، إذا كان في حيازة الغير أو استعمل العنف وأضرّ بالأشياء.
٣. أن يكون بإمكانه مراجعة السلطة المختصة للوصول إلى حقه، فلم يلجأ اليها بل استوفاه بالذات.
ومن خلال قراءة المشهد اللبناني نرى بأن لبنان يعاني من أزمة مالية خانقة أدت إلى انهيارالعملة اللبنانية والنظام المالي الاقتصادي منذ أواخر العام ٢٠١٩، وبالرغم من جميع المؤشرات المنبّهة لها لم تقدم الدولة اللبنانية على أي خطوة لتداركها حتى اليوم وبعد أربعة أعوام سواء من خلال السلطة التشريعية أو التنفيذية، فلم تتحقّق أي خطوة جدّية لاسترداد الودائع بقيمتها الفعلية مما يجعل العنصر الثالث غير محقّق، أي أن المودع لا يمكنه مراجعة سلطة مختصة لاستيفاء حقه، مما يحول دون تحقق ‘جرم’ الاستيفاء الحق بالذات، وهذا ما لحظته قرارات ‘الترك’ القضائية المتتالية التي تصدّت لحقوق المودعين في ضوء الوضع الراهن وما منع منها المحاكمة عن المودعين بجرم استيفاء الحق بالذات. ولأن الغاية الفضلى من التشريع وتطبيق القانون هي تطبيق العدالة وإحقاق الحق، أتى تبرير أفعال القوة المتعلقة باستيفاء الحق تحكماً على وجه التحديد على يد المودعين وعدم إنزال أي عقوبة بشأنها لوجود سبب تبرير وهو الدفاع المشروع عن النفس أو المال والتي نصت عليه المادة ١٨٤ من قانون العقوبات اللبناني.
يعتبر ‘حق الدفاع المشروع’، إلى جانب حق الإضراب وحق حبس الأموال والدفع بعدم التنفيذ، من الاستثناءات على مبدأ جواز استيفاء الحق بالذات التي نص عليها القانون، حيث كرّس المشترع اللبناني الدفاع المشروع كسبب من أسباب التبرير التي تمحو الجريمة، على نحوٍ يُباح للجميع الدفاع عن أنفسهم أو أموالهم لرد الاعتداء عند تعذّر الالتجاء الى أجهزة الدولة لتوفير الحماية الواجبة والتي قد تأتي متأخرة. فنصت المادة ١٨٤ من قانون العقوبات على أنه:
«يعد ممارسة حق كل فعل قضت به ضرورة حالية لدفع تعرّض غير محق ولا مُثار على النفس أو الملك أو نفس الغير أو ملكه، ويستوي في الحماية الشخص الطبيعي والشخص المعنوي. واذا وقع تجاوز في الدفاع أمكن إعفاء فاعل الجريمة من العقوبة في الشروط المذكورة في المادة ٢٢٨».
وقد اعتبرت المادة ٢٢٨عقوبات أنه إذا أفرط فاعل الجريمة في ممارسة حق الدفاع المشروع، لا يعاقب في حال إقدامه على الفعل في ثورة انفعال شديد انعدمت معها قوة وعيه أو إرادته. ويشترط القانون لتوافر حالة الدفاع المشروع عدة شروط، أهمها: وجود التعرض أو خطر الاعتداء الذي يهدد النفس أو المال، وأن تقضي به ضرورة حالية أو خطر محدق أو داهم، وأن يكون الخطر ما زال مستمراً أو قائماً عند الدفاع المشروع، وأن يكون التعرّض غير محق أو غير مشروع أي يهدد حقاً يحميه القانون، وأن يكون التعرض غير مثار أي ألا يكون المدافع هو مصدر الخطر وهو المتسبب فيه. كما يجب أن يكون التعرض مهدّداً للنفس أو الملك أو نفس الغير أو ملكه، سواء أكان شخصاً طبيعياً أم معنوياً، ويجب التقيّد في الدفاع بأن يكون لازماً ومتناسباً مع الخطر الواقع وهو متروك لتقدير المحكمة.
وعلى هذا، فإن الدفاع المشروع يعطي المودع الحق في أن يقتحم المصرف ويسترد وديعته عنوة بالوسيلة التي يراها مناسبة، كون حبسها هو تعرّض غير محق ويشكل اعتداء على ماله وحتى على حياته في الكثير من الأحيان، إذ ان الدفاع المشروع يعد ممارسة حق قضى به الظرف القائم.
في المحصلة تعتبر المادة ١٨٤ عقوبات استثناء على مبدأ عدم جواز استيفاء الحق بالذات. فالدفاع المشروع سبب للتبرير العام، وحق موضوعي مطلق مقرّر لجميع الأفراد لدرء الأخطار التي تهدّدهم عند استحالة اللجوء إلى الأجهزة المختصة لاستيفاء الحق أو لمنع وقوع الضرر، وذلك تغليباً لمصلحة المعتدى عليه على مصلحة المعتدي الذي أهدر حماية القانون له بخروجه على قواعده. فكيف بكل هذا في ظل ‘تحلّل’ المؤسسات الكفيلة بالمحاسبة، لا سيّما عندما يُترك اللصوص الجناة طلقاء يبذخون يميناً وشمالاً من ‘شقى العمر’ العائد للمودعين ولا يُلاحق أي منهم بتاتاً؟!