دراسات مستقبلية في العلاقات الدولية.. قراءة في كتاب بقلم: أ. د. محسن محمد صالح
قليلةٌ هي الدراسات المستقبلية الجادة التي يُعدّها خبراء متخصصون في عالمنا العربي، وقليلةٌ تلك الدراسات التي يتم فيها استخدام مناهج الدراسات المستقبلية بكفاءة واحتراف.
صدر منذ أيام كتاب جديد للدكتور وليد عبد الحي بعنوان “دراسات مستقبلية في العلاقات الدولية: نماذج تطبيقية” عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ببيروت، في 353 صفحة؛ يُمثِّل إضافة نوعية في مجال الدراسات المستقبلية؛ فهو يتضمن 16 دراسة متخصصة استخدم فيها عبد الحي باحتراف مناهج وأنماط ونماذج الاستقراء المستقبلي، ليعطي خلاصات واضحة للمسارات الكبرى والتوقعات للمواضيع محل الدراسة، بناء على معطيات علمية.
ويُعدّ الدكتور وليد عبد الحي أحد رواد الدراسات المستقبلية في العالم العربي، حيث نجح على مدى السنوات الأربعين الماضية، في تقديم العديد من التوقعات التي حدثت لاحقاً، بالرغم من أن البيئة العامة حين إصدار دراساته لم تكن تميل إلى هكذا توقعات.
وقد انعكس تخصص عبد الحي في العلاقات الدولية على دراساته، غير أن قضية فلسطين والصراع ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وضدّ المشروع الصهيوني أخذ حيّزاً كبيراً في التطبيقات والتحليلات والمقارنات، وهو ما جعله مادة مرجعية في هذا المجال.
ولذلك، تجد دراسات متخصصة بين دفتي الكتاب تناقش المستقبل الإسرائيلي، وتستقرئ مفهوم “القوة العقيمة” في تحديد المستقبل الإسرائيلي، ومستقبل الاستقرار السياسي في “إسرائيل” سنة 2030، ومستقبل “إسرائيل” في الدراسات المستقبلية غير العربية، ودلالة ترتيب “إسرائيل” في نماذج القياس الدولية، والسيناريوهات الإسرائيلية في مواجهة البرنامج النووي الإيراني، والتراجع الأمريكي في المكانة الدولية ومأزق الخيارات الاستراتيجية العربية والإسرائيلية. ويقدّم عبد الحي دراسة مهمة حول “مستقبل مدينة القدس”، وأخرى حول مستقبل هضبة الجولان السورية.
والكتاب يتضمن أيضاً دراسات مهمة لها انعكاساتها على الشأن الفلسطيني والصراع ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، مثل دراسة مؤشرات العسكرة والاستراتيجيات الأمنية في المنطقة العربية، ومستقبل العلاقات العربية الصينية.
* * *
سوف يلاحظ القارئ للكتاب مجموعة من الاستنتاجات اللافتة المبنية على الدراسة العلمية المنهجية الصارمة، ومن بينها أن التَّسويات السلمية العربية الإسرائيلية منذ اتفاقية كامب ديفيد مع مصر 1978 وحتى الآن، لم تسهم في التنمية والاستقرار في المنطقة العربية كما ادعى المدافعون عنها، ولكن على العكس أدّت إلى مزيد من السلوك الأمني للأنظمة، وإلى زيادة منسوب “العسكرة” للدول العربية. وأن زيادة النفقات العسكرية وتكريس “العسكرة” في البيئة العربية لم يجلب ديموقراطية أو تطوراً مجتمعياً، كما أنها فشلت فشلاً ذريعاً في ضمان سيادة واستقلال الدول العربية بالمعنى الدقيق لمصطلح الاستقلال.
وسيلاحظ القارئ أن هناك أربع دول عربية فقط تقع ضمن دائرة الاستقرار السياسي، وهي لا تضم أكثر من 5 في المئة فقط من مجموع العرب؛ وأن هناك 14 دولة عربية احتلت مراتب متدنية جداً في قوائم عدم الاستقرار السياسي العالمية حيث تراوحت من 127 وحتى 195 من بين 195 دولة جرى رصدها عالمياً، وأن جميع الدول العربية (باستثناء دولتين) تقع في خانة الدول السلطوية من حيث درجة الديموقراطية.
وتكشف دراسات د. عبد الحي أنه بالرغم مما يبدو على الكيان الإسرائيلي من استقرار ونمو اقتصادي والصورة “الوردية” التي يحاول أن يقدم فيها نفسه للعالم، إلا أن المعطيات العلمية تشير إلى أن الكيان الإسرائيلي هو ضمن الأسوأ عالمياً في مستوى الاستقرار السياسي في الفترة 2000-2022، وأن “إسرائيل” تحتل المرتبة الأولى عالمياً في مؤشر “العسكرة” وهي تتصدر هذه القائمة عالمياً منذ سنة 2001، بعكس صورة “الدولة الديموقراطية” التي تحاول أن تعكسها عن نفسها. كما أن “إسرائيل” سجلت مرتبة متخلفة جداً عالمياً في مؤشر “السلام العالمي”، حيث تراوحت مرتبتها في الفترة 2010–2022 بين المرتبة 134 والمرتبة 152، وأن الصورة السلبية لـ”إسرائيل” بين دول العالم تصل إلى 85 في المئة، وأنها تقع ضمن الصورة الأكثر سلبية في نظر شعوب العالم.
وبالتأكيد، فإن الكتاب حافل بمئات المؤشرات والمعطيات المتعلقة بالولايات المتحدة والصين وروسيا وأوروبا والعالم العربي وتركيا وإيران.. وغيرها. وهي معطيات مهمة لكل من يعنيه رسم صورة صحيحة وموضوعية عن البيئة الدولية، وعن حالة التدافع والصراع عربياً وإقليمياً، وفي مواجهة المشروع الصهيوني.
* * *
تعد دراسة قضية فلسطين من “أعقد” الدراسات من ناحية منهجية، نظراً لكثرة المعطيات والتداخلات والقوى الفاعلة وعناصر التأثير الديني والاستراتيجي والاقتصادي والثقافي، ونظراً لمكانتها وتأثيرها المركزي الإنساني، ولكون المشروع الصهيوني مشروعاً عالمياً مسنوداً بقوى عالمية كبرى، ولكون قضية فلسطين قضية مركزية وعقائدية في وجدان كلّ عربي ومسلم. ولذلك، يتداخل لدى الكثيرين الجانب الأيديولوجي والعاطفي والرغبوي مع الجانب العلمي المنهجي الموضوعي؛ فتأتي الاستقراءات المستقبلية أحياناً مشوشة أو فاقدة للبوصلة.
ولأن قضية فلسطين هي قضية مركزية للأمة ومستقبلها، فإن إعطاءها العناية الكافية في الدراسات المستقبلية يجب أن يأخذ أولوية كبيرة. وكذلك فإن الانتقال من “التنجيم” والتفكير الرغائبي والحدس إلى الدراسات المنهجية القادرة على استقراء الاحتمالات المستقبلية وفق المعطيات الواقعية، بما يسهم في التدخل الواعي المنظم للدفع باتجاه البدائل المفضّلة أو الأقل ضرراً، هو من الأهمية بمكان لمن يعمل في الشأن الفلسطيني. وبالتأكيد، فنحن نثق بوعد الله سبحانه وببشارات نبيه صلى الله عليه وسلم بتحرير فلسطين. غير أن الدراسات المستقبلية تسهم بشكل جاد في رسم خريطة طريق لتحقيق الأهداف، بأفضل السُّبل وبأحسن الإمكانات المتاحة.
والتجربة تُشير إلى أن أولئك الذين يملكون القدرة في التحدّث الكتابة عن الأحداث كثيرون، أما القادرون على تحليلها واستيعابها فهم أقل، بينما يتضاءل العدد جداً إذا تعلّق الأمر بتقدير الموقف، أو بالاستشراف المستقبلي.
* * *
يُعدّ كتاب الدكتور وليد عبد الحي “دراسات مستقبلية في العلاقات الدولية: نماذج تطبيقية” إسهاماً مهماً في حقل العلوم السياسية، وفي التطبيقات المتعلقة بالشأن الفلسطيني والصراع مع المشروع الصهيوني، وفي فهم ديناميات البيئة الدولية ومساراتها. ونأمل أن يشجع ذلك الباحثين والدارسين على تقديم أبحاث نوعية في المجال نحن أحوج ما نكون إليها في تلمّس الطريق في بيئات مليئة بالتحديات والعقبات، ولكنها لا تخلو من الفرص وعناصر القوة.