خطبة الجمعة للشيخ الخطيب في مقر المجلس
ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الطاهرين واصحابه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين.
والسلام عليكم ايها الأخوة المؤمنون والاخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاتة ونستغفر الله ونسأله أن يعفو عنا ويتوب علينا انه هو التواب الرحيم .
{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. صدق الله العلي العظيم.
من الأساليب التي استخدمها القرآن الكريم لتعليمنا كيفية التأدب في مخاطبة الباري عز وجل والرجوع اليه بعد تجاوزنا لأحكامه وحدوده وظلمنا لأنفسنا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وفي الوقت نفسه يعرّفنا ان الخروج عن حدود الله بالعصيان لأوامره ونواهيه، إن عواقب ذلك يعود على أنفسنا بالخسران والضرر، وان الباب لرفع العواقب لم يُقفل بمجرد الارتكاب والتجرؤ، بل باب التوبة مفتوح للراغبين بالتسليم والاعتراف،{وإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فهو استحق العقاب عند ارتكاب المعصية ولكن حلمه ورحمته تعالى افسحا في المجال وأعطيا الفرصة وأوقفا العقوبة مع عدم الاصرار والتوبة، وهذه التوبة أن تكون بخطاب الاستعطاف والإقرار بالذنب، وان التوبة ليست استحقاقاً والعقوبة ليست ظلماً وإنما خسرانٌ مستحقٌ {وإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
هذه الرحمة الإلهية التي هي احدى صفاته و أولى الصفات التي عبّر فيها عن نفسه بأول سورة من كتابه وهي سورة فاتحة الكتاب وأول آياته قائلا( بسم الله الرحمن الرحيم ) ثم كرّرها بعد ذكر الحمد له (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم)، في الدعاء الحمد لله الذي سبقت رحمته غضبه، فكل ما يصدر عنه هو من باب الرحمة حتى العقوبة الدنيوية التي تطال بعض العصاة إنما هي من باب الرحمة للخلق تَخُلّصاً من فساد الفاسدين وظلم الظالمين، فالله لا يقاس فعله بفعل البشر الذين يعاقبون حقداً وانتقاماً، أما خلفية العقاب الالهي فهي الرحمة للناس التي يعمل على تعطيلها ظلم الظالمين وانحراف المنحرفين الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون.
فالغاية أيها الاخوة والاخوات، هي الاصلاح والصلاح وحتى العقوبة التي تطال من استحقها قد تكون رحمة له لاصلاحه وإعادته الى جادة الصواب ليسير متوافقاً مع الخط التكويني نحو الغاية والهدف الإلهي للخلق، فكما ان للحياة سننها التكوينية يؤدي مخالفتها الى مصائب وكوارث قد لا تقتصر على مرتكبها، كذلك فإن للحياة الاجتماعية سننها وقوانينها لا يقتصر ضررها على من تعداها وتجاوزها، كما لا يقتصر نفعها على المُراعي لها في سلوكياته لترابطها وتأثيرها المتبادل بين الأفراد والجماعات ولو كانت منحصرة بالفاعل غير متعدية للجماعة كما في بعض الانحرافات السلوكية الفردية غير الظاهرة وغير المتجاهر بها، فإنّ آثارها لن تتجاوزه ولهذا حُرّم التشهير بصاحبها وكان التشهير وسيلة من وسائل تعميم الفساد وإشاعته الذي يجب مكافحته كما تكافح الحشرات الضارة بالمزروعات قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
ولهذا كانت فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات الشرعية لأنها تؤدي مهمة الحفاظ على مناعة المجتمع وقدرته على منع اختراقه من عوامل الفساد التي تؤدي إلى انحلاله وتفسخه وضياعه.
إنّ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عيني أي واجب كل فرد يمتلك المؤهلات من المعرفة والحكمة والقدرة على التعامل مع هذه الآفة الخطيرة من توجيه النصيحة الى استخدام القوة بما لا يؤدي الى الفوضى الاجتماعية إن أمكن ، و حين لا تكون هناك وسيلة اخرى للقضاء عليها، وقد تكون دوافعها سياسية وتخريبية أو حتى لأهداف اقل خطورة ولكن أضرارها بهذا الحجم كما لو كانت خلفياتها تجارية أو أزمات اجتماعية ومالية من ارتكاب المنكرات كالفواحش وتعاطي المخدرات.
وننصح هنا بالروابط العائلية والاجتماعية في الأحياء والمدن فإن ذلك كما هي مساعدة الفقراء والمحتاجين للقمة الخبز والدواء والمستشفى والسكن من الواجبات الشرعية ومن شأنها التخفيف من شيوع الفساد والافساد في المجتمع الذي يدفع ثمناً غالياً نتيجة التزاماته الدينية والوطنية، ويُستهدف لذلك في إنسانه وقيمه واقتصاد ولقمة عيشه، غير أنّ أخطرها هو الاستهداف بقيمه الدينية وقيمه الاخلاقية التي كانت وما زالت حصنه المنيع أمام كل الاستهدافات والأخطار التي تعرّض لها عبر تاريخه، ومثلت القوة التي استند إليها في بقائه ثابتاً وفاعلاً ومواجهاً كل عوامل الزوال والانحلال.
أيها الاخوة والاخوات، إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حكم إلهي اجتماعي أخلاقي وإنساني وبهذا المعنى وطني أيضاً ورحمة الهية، وإن أوجه الرحمة الإلهية كثيرة ومتنوعة ولا يمكن حصرها ، ولكن الله تعالى جمعها بمحمد واله الطاهرين فهم الذين مثّلوا هذه الرحمة مُعبّراً عن رسوله (ص (بالرحمة المهداة للعالمين ونودي برحمة الله الواسعة بأمر الله تعالى التي يمثلها علي والزهراء وذريته منهما.
وكانت السيدة الحوراء زينب بطلة كربلاء التي مثّلت كبرياء وعزة الإيمان وثبات وشجاعة الإيمان وانتصار الايمان، وأظهرت عجز النفاق وضعفه وجبنه الذي تمثل بابن زياد وبني أمية وقد عبّر عنها اصدق تعبير الذي قارنها بأبيها أمير المؤمنين وهي تخاطب ابن زياد، كما روى بشير بن خزيم الأسدي (۱) :
ونظرت إلى زينب بنت علي عليه السلام يومئذ فلم أر خفرةً ـ والله ـ أنطق منها ، كأنّها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا.
ولست أبالغ إن قلت أن موقفها في مجلس ابن زياد ويزيد شابه يومئذ موقف أبيها عند نزاله لعمرو ابن ود الذي قال فيه رسول الله (ص) نزل الإيمان كله الى الشرك كله وضربة علي يوم الخندق تعادل الثقلين، فكما كانت ضربته إحياءً للاسلام وانتصاراً له فإن كلمات زينب (ع) قد أحبطت المشروع الأموي بالقضاء على الإسلام بقتل الحسين (ع) وأهل بيته وانصاره ومثلت الرحمة الإلهية لهذه الأمة ببقاء الإسلام ( فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها).
السيدة زينب(ع) التي تقول روايات العامة انها حين ولدت أتى بها أبوها أمير المؤمنين (ع) يحملها قائلاً له: “لقد ولدت لنا أنثى سمها يا رسول الله، قال) ص): “والله ما كنت لأسبق الله بإسمها، فنزل جبرائيل من عند الله تعالى قائلاً له: إنّ الخبير العليم يقرؤك السلام يا محمد ويقول لك سمّها زينب هدية السماء إلى العالم”.
أيها الاخوة والاخوات، إننا نفخر بانتمائنا لها، زينب نموذج يقدمّه الإسلام للمرأة كأمها، هي ليست من زمن غابر، هي الماضي والحاضر والمستقبل فليس في عالم القيم ماض وجديد لأنه ليس من صناعة الزمان حتى يمضي عليه ويبليه الزمان، هذه القيم تنتسب لمن هو فوق الزمان والمكان ومن يغير الزمان والمكان هي قيم الهية، وبالتزامها تستقيم الحياة.
فالشرف والكرامة والعفاف والحياء والانوثة قيم الهية تشرّف المرأة بها، والتعرّي والوقاحة والتخنث وإلغاء التنوع في الوظائف الانسانية والشذوذ الجنسي والانحرافات الاخلاقية إفساد للحياة ، وافساد لنظام الخلقة البشرية الذي يسمونه تقدماً وحضارة والعفاف والستر يعدونه تخلفاً ورجعية، أفهل جئتم بجديد؟ أفليس هذا الذي تعدونه تقدماً تقلدون به من سبقكم من الأقوام السابقين الذين أُهلكوا بهذا الفساد؟
إنها حضارة الإعلام المزيف الذي يقلب الحقائق ويصوّر الأسود أبيضاً والأبيض أسوداً والحق باطلاً والباطل حقاً، يتأثر به الذين تأخذهم المظاهر الزائفة ويتكلمون حسب موازين القوى، فليس لهم مواقف ثابتة، فهم ابواق مأجورة، كما قال علي (ع):” الناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع يميلون مع كل هوى وينعقون مع كل ناعق”.
انكم تعلمون ايها الأخوة ان مجتمعنا يتعرض اليوم لحرب شاملة لا يختصر ميدانها على الساحة السياسية وإنما تتقصد وجودها الحضاري كأمة لها تاريخها وثقافتها وفكرها وشريعتها وكتابها الشامخ الذي يتحدى الزمن والامم، { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ، (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون)، أمة متكاملة المباني والمعالم والأهداف { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
ولذلك، فهي حرب متكاملة الأهداف يخوضها أعداء الأمة بكل الوسائل اعلامية وثقافية وعسكرية منسقة مع ادوات داخلية مرتبطة تحت حجج طائفية تارة واخرى بعناوين الحداثة ولكنها تستهدف امرا واحدا هو القضاء على منابع القوة فيها عقيدة وفكراً وقيماً الذي بدت المقاومة أحد أبرز تجلياته الحضارية بانتمائها الإسلامي والوطني الذي تجاوز اشكالية الجمع بينهما.
أيها الاخوة والاخوات، اعود وأكرّر ، ان الاسلام يتسع لبناء الدولة الواحدة المتعددة الانتماء الديني والطائفي فهو ليس دينا الغائيا فهو يتبنى الحوار قاعدة للحياة ويحترم الرأي الآخر ، فاخرجوا من العصبيات الطائفية التي تدفعكم للتخويف من المقاومة وأوهام المشروع الشيعي أو ما تسمّونه الشيعية السياسية إلى رحاب الانسانية والوطنية من الصيغة المدمرة إلى الدولة القوية العادلة التي تبعث الثقة بها لكل اللبنانيين وتريح أهل المقاومة من ثقل هم السلاح والدفاع عن الوطن ودفع اثمان الدفاع عن لبنان وحدهم، ولتتحمل الدولة هذا الواجب.
إن ارتباط الشيعة التاريخي في لبنان بايران هو ارتباط ديني معنوي تاريخي وولاؤهم السياسي هو لبلدهم لبنان، فهم لبنانيون والمشكلة في لبنانية وولاء من يتهمهم في لبنانيتهم الذين يريدون التطبيع مع العدو الاسرائيلي وخلق كيانات في المنطقة تشبه الكيان الاسرائيلي ويغضبون للغرب المناصر للعدو وهزائمه.
والسؤال الآن، لماذا رفض الحوار للاتفاق على رئيس للبلاد طالما ليس هناك أغلبية تتيح لأحد الاطراف أو لبعضها إيصال مرشحه لهذا الموقع مع ما في التأخير من اخطار على بقاء الكيان وزيادة في الاعباء على المواطنين وانهيار للمؤسسات.
أنصح المراهنين على الخارج الذين ينتظرون التعليمات منه الا يراهنوا على تعب أهلنا ومواطنينا ليتخلوا عن المقاومة ويستسلموا لمطالب الغرب والعدو الاسرائيلي.
إنّ المسارعة للتوافق وانتخاب رئيس للجمهورية ليس له بديل سوى زيادة المأساة وإطالة الأزمة على الشعب اللبناني الذي يكرّر بعض سياسيه تجاربهم الفاشلة على حساب ألامه ومصالحه المهدورة وأمواله المنهوبة.
إنّ حسابات الربح والخسارة الطائفية والحزبية هي حسابات خاسرة بالموازين الوطنية لأن هذه الحسابات ستدفع اصحابها للارتباط بالشيطان للانتصار على الفريق الآخر كما عبّر البعض أنه على استعداد للارتباط بالشيطان ليحافظ على مكاسبه وهذه ليست واقعية وإنما هي خيانة وطنية فلتكن حساباتنا حسابات وطنية ليربح الجميع.
أيها الاخوة والاخوات، نجدد تعازينا الحارة للشعبين الشقيقين السوري والتركي وقيادتهما سائلين الله تعالى الرحمة للضحايا والشفاء العاجل للجرحى وان يتمكن البلدان من تجاوز هذه المحنة ، ونناشد كافة الدول والمنظمات الدولية وخصوصا العربية والاسلامية تقديم المساعدات العاجلة لإنقاذ المناطق المنكوبة، وندين بشدة الحصار الظالم للشعب السوري وندعو إلى رفعه ليتمكن الشعب السوري الشقيق من مداواة جراحه في هذه اللحظات الحرجة. ونتوجه بالشكر الجزيل لكل يد امتدت بالمساعدة وتقديم العون للتخفيف عن آلام المنكوبين.
وبمناسبة انتصار الثورة الاسلامية الإيرانية نجدد التحية لمفجرها الامام الخميني ومباركتنا للشعب الإيراني وللقيادة التي استطاعت رغم الحصار والعقوبات الظالمة ان تصمد وتقدم نموذجاً للعالم قادراً ليس على البقاء أمام الحروب المتعددة الاوجه وإنما على الانتصار والتقدم وإيجاد الحلول للمشكلات التي وضعت أمامها بالاعتماد على قدراتها الذاتية والاستفادة من العقول والموارد في جميع حقول البحث العلمي والانتاجي والزراعي والصناعي وتخطي الهموم الداخلية إلى الوقوف بقوة وثبات إلى جانب القضية الفلسطينية والمقاومة وافشال مخطط تقسيم المنطقة والوقوف في وجه اشغال المنطقة بالفتنة المذهبية وارجاع القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام العربي والإسلامي.
و نأمل أن يتبعها رفع سوء الفهم بين الجمهورية الاسلامية وبعض الدول العربية وبالأخص المملكة العربية السعودية خدمة للقضايا العربية والاسلامية وعلى راسها القضية الفلسطينية وقضايا التنمية لصالح الشعوب العربية والإسلامية.