خطبة الجمعة للشيخ الخطيب في مقر المجلس
ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين حبيب اله العالمين سيدنا ومولانا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واصحابه المنتجين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين.
الأخوة المؤمنون والاخوات المؤمنات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}. الحق؟ ما هو الحق؟ وهل هناك ما هو حق؟
سؤال يبدو مستغرباً، ولكن مع ذلك هناك ما يدعو إلى هذا التساؤل وإن كان الجواب يبدو إيجابياً بالبداهة فكم من قضايا بديهية وما أكثرها بدت للبعض نظرية وبحاجة إلى تفسير وبرهان بعد ان أُدخلت عليها الشبهات أو بعد تعسّر تفسيرها على البعض مما أدخله في المتاهات والشبهات أدّى به الى سلوك المنهج اللاعلمي الخاطئ الى استنتاجات خاطئة وبدا أن النتيجة مخالفة للمقدمة لأن ما كان بديهياً بحسب المفروض كان أمراً نظرياً بحسب النتيجة وهذا تناقض غير جائز يدل على بطلان البرهان وان المنهج الذي أُتّبع لم يكن علمياً.
ولقد كان مفهوم (الحق) واحداً من هذه المفاهيم الواضحة والبديهية التي وقع البعض في إعطائها معانٍ وتفسيرات خاطئة وبعيدة عن معناها الأصيل من جملتها أن للحق معنىً نسبي، فما يكون حقاً بنظرك في ظرف معين قد يكون باطلاً في ظرف مختلف، فليس هناك ثبات في الدلالة الذاتية لهذا المفهوم وإنما يكون الحقّ حقاً لمن يرى فيه مصلحة له، ويكون باطلاً في نفس الوقت لمن لا يكون فيه مصلحة له، وبالتالي لا يمكن أن تكون هناك قاعدة يحتكم إليها بين المختلفين سوى القوة ومن يمتلك القوة يمتلك الاداة التي تحسم الاختلاف، فليس هناك حق يُحتكم اليه، وإنما قوة تحسم الخلاف لصالح القوي بسحق الضعيف، فالحقّ بحسب هذا المنطق هو حقّ القوة وهذا التفسير المنحرف للحق، هو التفسير الذي أخذ به المنطق المادي الغرائزي السائد وهو ليس منطقاً جديداً ولا مستحدثاً بل هو قديم قدم وجود الإنسان على الأرض، و الجديد فيه ان الحضارة المادية الحديثة استحدثت له فلسفات مختلفة لفرضه بإقناع المغلوب على أمرهم والضحايا بهذا المنطق الاستسلامي والإخضاعي لتمكين المجرم من السيطرة بأقل الأثمان، فهي فلسفة القوي وليست الفلسفة التي يفرضها العقل والمنطق الذي يجب الرجوع اليه في تحديد المنطلقات والثوابت والمعايير التي يجب الاعتماد عليها في التمييز ما بين النهج الصحيح والنهج الخاطئ في مسيرة الحياة، وليس الاعتماد على الغرائز التي يستوي فيها الإنسان والحيوان وتسخير العقل الذي تميز به الإنسان وكرّمه الله به للغريزة الحيوانية التي تجعله بذلك أسوأ شأناً منه، لأنه بتسخير العقل للغريزة يعزز في الإنسان الحيوانية أكثر بدل أن يُخضع الغريزة للعقل الذي يحدّ من سلطة الغريزة عليه ويحرّره من سطوتها ويرتفع به لمستوى الانسانية محكوما لمنطق العقل تكون الغرائز فيه محدودة المهام بحدود الحاجة للاستمرار الذي يحتاجه
للبقاء من التزود بالأكل والشرب وممارسة الجنس بقصد التوالد وبقاء النوع مع الحصول على اللذة لكي لا تكون الحياة جامدة للتخفيف من متاعب الحياة.
وما عزّز هذا التفسير أن هناك ثوابت وموازيين واقعية فوق الغرائز والشهوات ساعدت اتخاذ الإنسان منها منطلقاً للتمييز بين ما هو الصواب والخطأ، يطلق عليه الحق والباطل، فالحق هو ما يَحِقّ ويثبت ويصح أن يقف الإنسان عنده فلا تزل قدمه ولا يخطأ طريقه وإن بدا ضعيفاً لأول وهله، وأن يدع الباطل الذي لا ثبات له وإن بدا ثابتاً وصلباً فسرعان ما تستبين الأمور على حقيقتها ويحمد القوم السُّرى.
فليس الحق والباطل من الامور النسبية التي تتغير معانيها تبعاً للمصلحة والمنفعة وخلافهما، بل هي من الثوابت التي تُقاس الأمور بها فتكون محقة إن طابقت مقاييس الحق والا فهي باطلة، وفي معرض الزوال وهو ما عناه الحق تعالى في الآية {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، الذي يُستند في ثبوته اليه، فهو تعالى الحق المطلق وموازينه الحق {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ}، فهي في التشريع كما هي في التكوين فكما أن البنيان المادي إن لم يستند إلى الموازين العلمية الدقيقة ينهار كذلك البنيان الاجتماعي كما يشير اليه القرآن الكريم قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
فالحق هو الميزان الذي تزان به الأمور وليس اي شيء آخر يقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} عن علي عليه السلام قال: (يا حار انه الملبوس عليك، ان الحق لا يُعرف بالرجال وإنما الرجال يُعرفون بالحق، فاعرف الحق تعرف أهله قلوا أو كثروا واعرف الباطل تعرف أهله قلوا أم كثروا).
هذا هو الميزان فلا القلة تعني باطلاً ولا الكثرة تعني حقاً ، مطلقاً، وكذلك القوة والغنى والضعف والفقر والانتساب الى الآباء رفعة وضعة فإنها لا تعطي امتيازاً ورفعة ولا توجب ضعة ولا امتهاناً، فالناس في الكرامة الانسانية سواسية كأسنان المشط وكما أن المشط لا يؤدي المهمة التي صُنع لأجلها إلا أن تكون أسنانه متساوية فكذلك الناس.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ودينكم واحد، ونبيكم واحد، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى.
وعنه (صلى الله عليه وآله) لما دخل البيت عام الفتح ومعه الفضل بن عباس وأسامة بن زيد، ثم خرج فأخذ بحلقة الباب يقول: ” الحمد لله الذي صدق عبده، وأنجز وعده، وغلب الأحزاب وحده، إن الله أذهب نخوة العرب وتكبرها بآبائها، وكلكم من آدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم”، فالتمايز كان بأمر واحد وهو التقوى.
الاباء والأخوة والابناء الكرام الأمهات والأخوات والبنات الكريمات، إنّ التقوى هي القيام بالوظائف التي أوجبها الله تعالى علينا جميعاً كل بحسبه، وظيفة الرجل في عباداته فيما بينه وبين الله تعالى والمرأة في عباداتها فيما بينها وبين الله تعالى ووظيفة كل منهما في العلاقة مع والديه من البرّ والطاعة في غير معصية الله تعالى، وعلاقة الرجل والمرأة في داخل الأسرة التي هي أساس في تربية الأبناء التربية الصالحة على الالتزام بالواجبات ومعرفة الحقوق والواجبات وبناء علاقة قائمة على التقوى والمودة علاوة على علاقة الأبوين او الزوجين الخاصة وحقوق كل منهما على الآخر التي أولاها الله تعالى اهتماما ًخاصاً، حيث يعاتب الله تعالى الرجل الذي تدفعه قوته أحياناً إلى تجاوز الحق والاستيلاء بالقوة والقهر على أموالها كمثال على حرمة استغلال القوة الزائدة لديه لقهرها واغتصاب حقّها يقول تعالى في ذلك: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}.
هذه العلاقة بُنيت على موازين الحق ولم تبن على أساس الهوى، وليس لأحد مع الله قرابة وان أقربهم اليه أتقاكم أي اكثركم التزاما ًبميثاقه وعهده وقد أخذنا منكم ميثاقاً غليظاً.
هذه الموازين إن أُحترمت من أطرافها سَلُمت وقامت بكفاءة بأداء وظيفتها لأن بنيانها قام على الحق.
إنّ سلامة المجتمع نابعةٌ من سلامة الأسرة كما أن الأسرة تتأثر أيضاً بالمجتمع، فعلاقة التأثير بينهما تبادلية، إلا ان الأسرة هي النواة الأولى في المجتمع، لذلك فالوالدان يتحمّلان مسؤولية خاصة في حماية الأسرة وتشذيبها مما قد تتأثر به من سلبيات المؤثرات الخارجية، ومن مسؤوليتهما الرعاية والاهتمام بهما، ومردود الاهتمام والقيام بوظيفة الرعاية والتربية للأبناء مردودها الأولي على الوالدين وهما أول من يتلقيان تداعياتها سلباً أو إيجاباً وكما يُقال “كما تدين تدان”.
ولذلك فإنّ المسؤولية كبيرة ولا يتحجّج أحد أن الوقت ليس بكافٍ للقيام بهذه الوظيفة، وان الاهتمام بشؤون العمل والهموم المعيشية الضرورية لا تدع له وقتاً لذلك ولا حيلة، فإن إعطاء بعض الوقت لأبنائنا والاستماع إلى شؤونهم وشجونهم وما يفكرون به وإشعارهم بالاهتمام بهم يقوّي علاقتهم في ما بينهم.
إنّ القيام بذلك يجعلهم أكثر تأثراً به ولن يأخذ منهم وقتاً طويلاً وخصوصاً في السنوات الأولى التي تؤسّس لهم توجهاتهم الفكرية والروحية والسلوكية ويزوّدهم بالمناعة اللازمة من التأثر بالسلوكيات السلبية للآخرين، وهذا موضوع مهم وخطير يطول الكلام فيه ولا يمكن تناوله والإحاطة به في هذه الدقائق المحدودة وتحتاج إلى تضافر الجهود من إخواننا العلماء والخطباء والتربويين بمبادرات فردية وجماعية نحتاجها، ومجتمعنا أشد الحاجة في ظل البرامج الممنهجة والموجهة لإفساد أبنائنا من الناشئة في ظل توجّه مرعي من جهات دولية لضرب بنيتنا الاجتماعية واستخدام أحدث الاساليب المؤثرة من التواصل الاجتماعي وغيرها للتأثير عليهم والامساك بهم، مما يوجب زيادة التنبّه والسرعة في مواجهة هذه الحرب بهذا الأسلوب الخبيث الذي يقوم بتهديم بيوتنا من الداخل كما تفعل حشرة عثّ الثياب.
إنّ هذه ايها الأخوة هي واحدة من أساليب استخدام الفوضى التي يعملون عليها لتغيير نمط التفكير لدى ابنائنا كجزء من سياسة تعميم الفوضى في مجتمعاتنا، هذه الفوضى التي يعملون عليها يدّعون أنها أداة للتغيير، وإقامة مجتمع جديد لا ينتمي لا إلى فكرنا ولا ديننا ولا مبني على أساس القيم التي نؤمن بها لتصبح أجيالنا الجديدة مقطوعة الجذور عن أصولها ليَسهُل التحكم بها واستخدامها لتحقيق أغراضهم الخبيثة في إكمال السيطرة على أجيالنا ليكونوا منفذّين لإرادتهم الهدّامة مستخدمينهم وقوداً واداةً في الحرب ضدنا، وما زلنا نعيش التجربة في بناء جيوش القاعدة وداعش في التدمير الذاتي لبلادنا وتشويه ديننا وفكرنا يخوضون حربه ويحققون اهدافه من دون أن يخسر اي شيء.
لقد قلنا ان المقصود هو إيجاد فوضى داخل مجتمعنا لإزالة ما هو موجود ولإيجاد بناء بديل بزعمهم انه الأفضل، فهل يوما كانت الفوضى عامل بناء ؟ الفوضى ايها الأخوة ليست سوى عامل هدم وخراب وأنا متأكد ان أبناءنا لن تغرّهم هذه الدعوات التخريبية وسوف يخوضون هذه المواجهة لهذه الحرب الخبيثة بكل صبر ووعي واقتدار كما خاضوا الحرب الظالمة والاحتلال الغاشم وطهّروا أرضهم من رجس الاحتلال، وإذا كان البعض من الداخل يطعننا في الظهر بسلاح الغدر الإعلامي فلن يفلح في شلّ عزيمتكم وقدرتكم بفجوره وافتراءاته ومحاولة النيل من طهارة الارحام والاصلاب التي أنجبتكم.
إنّه الحسد الذي يعتمل في صدورهم وبريق الذهب الذي يلمع ليعمي بصائرهم قبل ابصارهم ولن يضرّكم كيدهم شيئاً كما وعدكم ربكم، فهؤلاء قاصرون عن أن يبنوا وطناً أو يقفوا في وجه معتدٍ ومحتل غاشم، اعتادوا على الارتزاق بالمال الحرام وتنفيذ مآربه ومخططاته.
إنّ ما يؤسفنا ما نراه من نشر للفوضى وتهديم لما تبقّى من بنيان وسرقة لما تبقى من رصيد للبنانيين ومهازل على شاشة التلفزة وضرب لما تبقى لهيبة القضاء وتعرض للقوى الأمنية، أبهذا ايها الاشاوس تحفظون القضاء والاجهزة الامنية كما تدعون؟ بئس ما صنعت أيديكم وبئس ما أنتم فاعلون، ما هذه المهزلة تهربون وتمتنعون من خلق الأجواء الملائمة لانتخاب رئيس للبلاد لانتشال البلد والناس من المأساة التي أنتم ابطالها وصانعوها، وتعملون على إطالة أمد الازمة وزيادة معاناة الناس، لأي هدف ولأي سبب؟ هل ما زلتم تنتظرون المدد الخارجي طمعاً في حصول تعديل بموازين القوى والانقلاب على إنجازات المقاومة التي هي إنجازات لكل لبنان.
إنّ ما يحصل أشبه شيء بفعل نيرون، تشعلون البلد وتقفون على التل تتلذذون باحتراقها الا ساء ما سولت لكم أنفسكم، عودوا إلى رشدكم واجلسوا على طاولة الحوار للخروج بحل يعيد لبنان وشعبه إلى لعب دوره المميز، لبنان رسالة الإسلام والمسيحية إلى العالم عنوانه محمد والمسيح رسالة النور والهدى إلى العالم، ولا تقزّموه على مقدار أنانياتكم، فلبنان حجمه بحجم المسيحية والإسلام، والأمل يبقى بالشعب اللبناني بكل طوائفه ومكوناته، سرعان ما سيكشف له الغطاء ويعلم حقيقة ما يحصل فهو المؤمل بالتغيير وعليه ستقوم مهمة بناء لبنان الجديد.
وفي سياق ما يجري فلسطين من تصاعد الغطرسة الصهيونية، فاننا نستنكر بشدة المجزرة التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني في عدوان موصوف على الشعب الفلسطيني اغتالت خلاله عصاباته شبانا فلسطينيين في ديارهم، يكشف حالة الارباك والذعر التي يعيشها كيانه اثر إخفاقه وازماته الداخلية ، ونحن اذ نعزي بالشهداء الابطال ونتمنى الشفاء العاجل للجرحى ، فإننا نحيي الشعب الفلسطيني على تضحياته التي يبذلها دفاعاً عن الأرض والمقدسات ونخص المقاومين والأسرى بتحية الاكبار، ولنا ملء الثقة ان المقاومة ستنتقم للشهداء والنصر سيكون حليفاً للشعب الفلسطيني.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} صدق الله العلي العظيم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته